طه العامري :
كثيرة هي أنماط الفنون الإبداعية التي تعطي الإنسان طاقة روحية وتفاؤل بالغد الأفضل والأمل القادم على أجنحة الأحلام أيا كانت هذه الأحلام عصية على التحقيق لكن ثمة إبداع فني يجعل التفاؤل ممكنا بتحقيق الحلم ويعطي النفس متسعا لتقبل تحديات الحياة مهما كانت هذه التحديات تبدو عصية على القهر..
شخصيا احب كل أشكال الفنون التي ليس فيها إثم ولا ذنب ولا جريمة يقع فيها عاشق هذه الفنون الا لدى أولئك المعقدين الذين يحملون قلوب داكنة في السواد ونفوسهم تجدها وكأنها قطع من ليل بهيم..!
اعترف ان نفسي تشربت بإبداعات سيدة الغناء العربي أم كلثوم وذابت باغاني عبد الحليم، وفريد، ومارسيل وتشبعت بفن وابداع أبو عرب شاعر وفنان الثورة الفلسطينية، غير اني اجد نفسي ليس مجرد عاشقا للفنانيين الفاضلين الاستاذ أيوب طارش والأستاذ عبد الباسط، عملاقين ابداعيين انجبتهما منطقة الأعبوس حيفان محافظة تعز، بل أجد نفسي مدمنا لفنهما الذي لم يقف عند نطاق (الرفاهية والترفيه) بل حمل فنهما وابداعهما الفني رسالة اجتماعية واخلاقية ووطنية ودينية ، فشكلا معا ثنائيا إبداعيا لن نجد لهما نظيرا بل يستحيل أن يتكرران هاذان المبدعان العملاقان اللذان اعطيا الأرض والإنسان وعلى مختلف طبقات المجتمع وتنوع القيم المجتمعية زادا إبداعيا وفنا راقيا وقدما للوطن والمجتمع ملاحم إبداعية تمزج بين التوجيه والوعظ والإرشاد وتعزيز القيم الروحية والاخلاقية لم يقدم مثلها عتاولة رموز الكراهية والحقد الذين امتهنوا زراعة الفتن وتظليل الوعي وتحويل الحياة الي رحلة بؤس وشقاء وقهر بأسم الدين وكأن دين الله مجرد من قيم الرحمة والمحبة والتسامح والحب مع أن الله رحمة والله حب وتسامح وسمؤ وسيدنا رسول الله يمنحنا بسيرته وسنته متسعا للترفيه وهو من ارسله الله رحمة للعالمين، وداعيا بأمر ربه بالحكمة والموعظة الحسنة.
أن من يقف ضد الفن تحت أي مبرر هو إنسان مجرد من المشاعر والأحاسيس أيا كانت مكانته وفن العملاقان أيوب وعبد الباسط هو إبداع يعكس معاناة إلانسان في بلادي ويعبر عن أحلام و تطلعات البسطاء وبقالب فني رائع والحان تخاطب العقول والقلوب والمشاعر ينقلون التحولات الاجتماعية بكل ابعادها ويقدمون صورة واقعية عن كل معاناة المجتمع بطريقة يعجز عن الاتيان بمثلها أولئك الذين يبثون سمومهم من على المنابر ويقدمون دين الله وكأنه دين (العقاب) الذي لا حدود له ويرون الحب حرام والمشاعر جريمة والعواطف الإنسانية رجسا من عمل الشيطان..؟!
على مدى أربعين عاما أنهمكت في الكتابة السياسية غير اني اعتقد أن هذه الكتابة تجبرني قهرا وقسرا اليوم الابتعاد عنها لبعض الوقت حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ويطلع فجر المرحلة الذي سيبدد قتامة اللحظة وطنيا وقوميا، وعليه قررت أن أتناول جانب مهم من أهم جوانب حياتنا وهو الجانب الفني والإبداعي الذي ابدعه عمالقة الفن والأدب في بلادنا وأخص بالذكر هنا الاستاذين الفاضلين أيوب طارش وعبد الباسط عبسي وسأتناول هنا إبداع الاستاذ عبد الباسط الذي اتحفنا بانغام وكلمات نحتت في وجداننا والذاكرة، أنغام أبدعها بلبلنا الشادي ومنها تعلمنا حب الأرض والأسرة وحب الوطن، أنغام علمتنا الكثير من القيم والأخلاقيات ونقلت حقيقة واقعنا في الريف والمدينة كما نقلت معاناة الفلاح والعامل والموظف والطالب والإنسان اليمني في كل جغرافية الوطن.. وقدمت لنا وللأجيال توثيق متكامل عن مراحل تحولات نا الاجتماعية والسياسية والثقافية وتطورنا الحضاري.. أغاني اتحفنا بها استاذنا عبد الباسط تعلمنا منها كيفية مقاومة القهر والظلم والتعسف والاستبداد، كما علمتنا كيف نحب، وكيف نتمسك بقيمنا، وكيف نحافظ على ترابطنا الاسري، ونتمسك باخلاقياتنا، وأن نقاوم الظلم بالحب حينا وبالثورة احيانا، وهنا أجدني أقف أمام اغنية (وراعية) من كلمات الاستاذ سلطان الصريمي شفاه الله واطال بعمره والحان وغناء الاستاذ عبد الباسط وفيها ما يمكن اعتباره دعوة صريحة للمظلومين ليثوروا ضد الظلم، هذه الأغنية ورغم سنوات عمرها غير إنها لاتزل تجسد واقعا نعيشه اليوم وتحاكي كلماتها معاناة شعب لايزل يعيش تحت راية القهر والحاجة والاستبداد..!
لست ناقدا فنيا ولا متخصص في الكتابة الفنية لكن أجد نفسي ومنذ تفتق فكري اسيرا لأنغام وأغاني الاستاذين أيوب وعبد الباسط وأذوب عشقا في اغانيهما كلمات ولحن وأداء ومعهما اعيش في لحظات أفراحي وأحزاني ومعهما أجد نفسي طائرة مع انغامهما بغض النظر أن كنت اعيش لحظات الفرح أو لحظات الحزن.
الأساتذة أيوب وعبد الباسط عبسي لم يقف فنهما وأبداعهما في نطاق الإبداع الفني، بل معهم نقلونا إلى عالم التصوف عن طريق الفن، من خلال أبداعهما الفني الذي تعلمنا منه حب الله والرسول وحب العدل والزهد والحرية وحب الوطن الأرض والإنسان، علمونا كيف نرتبط بالقرية والريف الذي خرجنا منه، وعلمونا كيف نحافظ على جذورنا مهما بلغت مكانتنا في المدينة، وعلمونا أن التطور والتقدم وصخب المدينة وحياة الرفاهية في المدن يجب أن لا تنسينا جذورنا الريفية، وكما تغزلت أنغامهم بالوطن والحرية والعدالة، نقلوا بأمانة كل معاناة الريف وضروفه ومعاناة أهله وقدموها بانغام شجية ساحرة نالت إعجاب المهتمين في الأدب التراثي الإنساني نموذج اغنية أو ملحمة (مسعود هجر) للكاتب الاستاذ سلطان الصريمي التي لحنها وغناها فنانا المبدع الاستاذ عبد الباسط عبسي التي استعرضت معاناة المرأة الريفية، ومرارة حياتها اليومية وهجرة الحبيب طلبا للرزق في بلاد الغربة، هذه الملحمة التي عكست حروفها معاناة المرإة اليمنية وقدمت صورة كاملة عن حياتها والواقع الذي تعيشه.. أغنية اجدني كلما اسمعها اتذكر (أمي) ونسوان قريتي ومعاناتهن من فراق احبابهن في بلدان المهجر، واتذكر حين كان والدي يعمل ( طبل، أو جمال) ينقل الرسائل من أهالي القرية إلى احبابهم في المدينة وينقل من المدينة رسائل إلى القرية وكنت متخصص بكتابة الرسائل لنساء وأهالي قريتي إلى احبابهم في المدينة ولا أزل اتذكر مشاهد الدموع وهي تذرف من عيون بعض النسوة زوجات وامهات وهن يملين لي كلمات الشوق والعتاب والأمنيات من الله بأن يوفقهم ويعيدهم سالمين غانمين، حتى تمكنت من استيعاب مشاعر وأشواق تلك الأسر واشتهرت في القرية باني احسن من يخط الرسائل للمغتربين، واعبر لهم عن مشاعر اسرهم، حتى صرت أجيد صياغة الرسائل أن كانت من الزوجة لزوجها أو من الام لابنها، أو من الوالد لولده، لدرجة لم أكن احتاج أن أسأل من أصحاب الرسالة الي ما يتعلق بالمعلومات المهمة المراد تدوينها فيما التعبير عن الاشواق كنت أسطرها بطريقة تسعد المرسل والمتلقي.
اغاني الاستاذ عبد الباسط حتى اليوم كلما اسمعها تعيد ذاكرتي لذلك الزمن و حيث اكون تعيدنا إلى جذوري وأن بخيالي وافكاري ومشاعري، إنها الزاد الذي يروي الحنين ويقوي النفس على مواجهة تحديات الحاضر وتداعياته.
ألف المفكر الإسلامي “محمد قطب” كتابا تحت عنوان “منهج الفن الإسلامي” حاول أن يطرح أسسا لنظرية إسلامية في مجال الفن، وقد اعتبر في كتابه ( أن الفن الإسلامي ليس هو الذي يتحدث عن حقائق العقيدة مبلورة في صورة فلسفية، ولا هو مجموعة من الحكم والمواعظ والإرشادات، وإنما هو أشمل من ذلك وأوسع، إنه التعبير الجميل عن حقائق الوجود من زاوية التصور) واعتبر أن كل الفنون الإنسانية التي أنهمك الإنسان في إبداعها وجعلها جزءا من حياته اليومية بما فيها الموسيقى والغناء والشعر والسينما والمسرح وكل المخرجات الفنية تعد جزءا أصيلا من الوجود الإنساني وهي كذلك في حياة الإنسان المسلم، طالما وهذه الفنون متصلة بالوعي الجمعي وتقوم بتأدية مهمتها في ترسيخ الوعي الجمعي للمجتمع وتساهم في تطويره وتقدمه الحضاري وتزرع قيم الحب والمؤدة والتألف في أوساط المجتمعات وتكرس في نفوسهم كل مقومات الأمل والتفاؤل مهما كانت قتامة الحياة قاسية.
ويمكن القول وفق هذا السياق أن ما قدمه عمالقة الفن اليمني الأساتذة الافاضل أيوب طارش وعبد الباسط عبسي من أعمال إبداعية تندرج تحت وصف المفكر محمد قطب ناهيكم أن الفنون بكل أشكالها ومدارسها تندرج في سياق التطور الحضاري للشعوب والشعب الذي لا يؤمن بالفنون لا يمكن أن يكون له علاقة بالتقدم والتطورات الحضارية بعيدا عن تفسيرات بعض الأصوات النشاز التي ترى في الفنون ( عدوا يجب مقاومته) وتحريمه خوفا من تأثير هذا الجانب على الوعي الجمعي الذي يريد منه البعض أن يبقى محصورا تحت سيطرتهم وهم بهذا السلوك يجترون أثر ( كهنة وأحبار بني إسرائيل) الذين أحتكروا لأنفسهم كل المعارف الدينية والدنيوية للمتاجرة والابتزاز وإصرارهم على تجهيل العامة وإبقائهم في دائرة التبعية لهم.
في هذه التناولة سأقف أمام ملحمة ثورية ونضالية
هي اغنية (وراعية) التي اتحفنا بها استاذنا عبد الباسط عبسي من كلمات الاستاذ سلطان الصريمي_ والتي سبق أن أشرت إليها في تناولة سابقة ولكن دون توضيح _ إذ يجد المستمع نفسه يستمع لملحمة ثورية وادبية واجتماعية، ملحمة نقلت معاناة شعب في وطن تنهشه غربان الفساد والقمع والاستبداد والطغيان، أغنية وراعية هي دعوة للثورة ضد حياة الظلم والقهر والتعسف والامتهان، قدمها الثنائي الرائع الاستاذ عبد الباسط والأستاذ سلطان الصريمي في مرحلة تاريخية كانت ولاتزال تلقى بتداعياتها على حياة الناس ورغم مرور عقود على خروج هذه الأغنية إلا أن من ينصت لكلماتها يجدها وكأنها تعبر عن واقع اللحظة الراهنة، ودعونا نقف أمام هذه الرائعة الإبداعية للثنائي الوطني والمناضلان اللذان دفعا ثمن إبداعهما وثمن إنتمائهما الوطني وانحيازهما للبسطاء والمقهورين من أبناء الشعب..
.. وراعية غني وشلي بالدان..
ما تنفع الطاعة ولا التمسكان.
وسلمي على نقم وشمسان..
سلام داَمٍ من بتول يهتان..
يا الله.. ما أعظم هذه الاستهلالة التي تحمل تأكيد على أن لا فائدة من طاعة الطغاة ولا جدوى من التمسكان أمامهم، وأن مواقف كهذه لا تنفع مع من جعل الاستبداد والظلم ديدنه.. ورغم حالة القهر ومرارته إلا إن ذلك لم يغفل الأنتماء الوحدوي للمقهور.
حسب_ فهمي المتواضع وقد أكون على خطاء فأن (الراعية) هي تعبير مجازي _استخدمه الشاعر والفنان وتعني (الغالبية المقهورة من أبناء الشعب) الذين عبرت الأغنية عن مظلوميتهم وحالة القهر والبؤس والحاجة التي يعيشها غالبيتهم ، وبلغة بسيطة وسلسلة يفهمها العامة من البسطاء دون تعقيد أو تعالي لغوي وبعيدا عن المفردات المبهمة.
ثم تتواصل المظلومية في سرد حياة ومعاناة المقهورين.. وهنا سوف اسرد بقية مقاطع الأغنية ليتأملها القارئ ويستوعب بقية محتوياتها.
وراعية أعمى الجفاف بلادي
زرعي إيبس ومات ضماء جوادي
ودمع المحبوب والمعادي
وراح مقتول الهوى فوادي.
…
وراعية كلمن حزب وعيد
وحزب الجهال وشقر الخد
وفرش الديوان وخضب اليد
وانا وحبيبي نصطلي ونقهد
…
َوراعية دهري زلج بواطل
من الغلاء والجوع والمشاكل
البئر نزف وجفت السوائل
ودمع عيني عالخدود سائل
…
وراعية غنيِ وخبري العيد
أن الحبيب مهتان وفارغ الأيد
يشتي جديد يشتي سخي من الجيد
والناس لا منقود ولا مناقيد.
تلكم واحدة من الإبداعات الرائعة التي تعكس واقع اجتماعي كان ولايزل وسوف يستمر حتى نلحق بقطار العدالة الاجتماعية.. وهي بذات الوقت دعوة لرفض الظلم وضرورة مقاومته.
يتبع
آخر الأخبار:
- تعز ..إنفجارات كبيرة تتسبب في خسائر مادية وسقوط ضحايا
- الفريق السامعي يطالب بإحالة المتورطين في مقتل حنتوس لمحاكمة عاجلة والتحقيق في التمادي على دماء الناس
- الضالع.. تفاصيل تفجير قبة مريم العذراء
- رسمياً .. المسلم ممداني يفوز في الإنتخابات التمهيدية لعمدة نيويورك
- مشروع خفي لإسرائيل يثير مخاوف مصر والأردن
- سفير أمريكا لدى إسرائيل يهدد باستخدام قاذفات ‘بي -2 ‘ضد صنعاء
- ترامب: إسرائيل قبلت وقف إطلاق النار 60 يوماً بغزة