خليل الزكري
يظل مصطلح “الجنوب العربي” أحد أكثر التسميات إيلاما في الوجدان اليمني، ليس لأنه يستحضر الماضي الاستعماري فحسب، بل لأنه يُستعاد اليوم كمشروع سياسي معاصر، يراد له أن يؤدي الوظيفة نفسها التي صُمّم من أجلها قبل سبعة عقود: فصل جزء من اليمن عن هويته الوطنية وامتداده التاريخي.
ما يقدّم اليوم تحت هذه التسمية ليس فكرة جديدة، بل إعادة تدوير لمخطط بريطاني قديم، ولد في خمسينيات القرن الماضي، حين سعت بريطانيا إلى هندسة كيان سياسي مصطنع تحت اسم “الجنوب العربي”، ليكون حاجزا جغرافيا وسياسيا في وجه أي مشروع يمني جامع. الجديد فقط هو تغير الراعي الخارجي، بينما بقي الجوهر الاستعماري كما هو، وإن بأدوات محلية هذه المرة.
لم يكن مصطلح “الجنوب العربي” يوما توصيفا جغرافيا بريئا، ولا تعبيرا عن هوية تاريخية مستقلة، بل اسما سياسيا من صنع الإدارة الاستعمارية البريطانية. اسم أُريد له أن يعيد تعريف المكان، تمهيدا لإعادة تشكيل الوعي، ثم السيطرة على الأرض. وقد سقط هذا الاسم مع خروج آخر جندي بريطاني من عدن عام 1967، لكنه يعود اليوم محمولا على أجندات إقليمية، تتقدمها دولة الإمارات، في سياق استراتيجيات بحرية وعسكرية تهدف إلى السيطرة على السواحل والجزر والموانئ اليمنية.
حين احتلت بريطانيا عدن عام 1839، لم تدخل فراغا جغرافيا ولا أرضا بلا هوية، بل ميناءً يمنيا متصلا بعمقه الطبيعي شمالا وشرقا وغربا. غير أن الاستعمار، كما نبه المفكر والشاعر الكبير عبد الله البردوني في كتابه “اليمن الجمهوري – دراسات في التاريخ والسياسة”، لا يبدأ بالمدفع، بل بالاسم. فالتسمية هي أولى أدوات الهيمنة، وتشويه الاسم يسبق دائما السيطرة على المكان. ويشير بوضوح إلى دور التسميات السياسية في خلق هويات زائفة تخدم الهيمنة الخارجية. وهو ما يفسر إصرار بريطانيا، منذ منتصف القرن العشرين، على استبدال مصطلح “جنوب اليمن” بتسمية “الجنوب العربي”، في محاولة واعية لفصل المكان عن سياقه التاريخي.
هذا المسار يوثّقه بوضوح الدكتور حسين عبد الله العمري في كتابه “تاريخ اليمن الحديث والمعاصر”، حيث يبين كيف تعامل الاستعمار مع الجنوب كوحدة منفصلة قسرا، لا ككيان طبيعي، رابطا بين مشروع السلطنات، وكيف صنعت بريطانيا لها وضعا سياسيا خاصا عبر الحماية، والتقسيم الاستعماري طويل الأمد. ولم يكن إنشاء بريطانيا في خمسينيات القرن الماضي “اتحاد إمارات الجنوب العربي”، ثم “اتحاد الجنوب العربي”، سوى التعبير المؤسسي عن هذا التوجه، ككيانات سياسية وظيفية، أُقيمت على إحياء السلطنات والمشيخات، لا باعتبارها تعبيرا عن إرادة شعبية، بل بوصفها أدوات عزل سياسي في مواجهة أي مشروع وطني يمني.
وتؤكد الوثائق البريطانية نفسها هذه الحقيقة، إذ ترد تسمية الاتحاد في سجلات وزارة المستعمرات بوصفه كيانا أُنشئ “لحماية المصالح البريطانية وضمان الاستقرار بعد الانسحاب”. وهي صيغة كاشفة، لا تترك مجالا للشك في أن التسمية ارتبطت مباشرة بوظيفة استعمارية، لا بإرادة السكان أو بتاريخهم.
من داخل عدن، واجهت القوى الوطنية هذا المشروع بوصفه قناعا للاستعمار. وهو ما أكده الكاتب والباحث العراقي كامل المشاهدي، في كتابه “حقائق عن الجنوب العربي ونضال عدن”، حيث يقول: “كان اتحاد الجنوب العربي محاولة بريطانية لإعادة إنتاج السيطرة السياسية بأسماء محلية، وقد رفضته القوى الوطنية في عدن بوصفه قناعا للاستعمار”. ولذلك قوبل برفض واسع، لأنه لم ينشأ من المجتمع، بل فُرض عليه.
هذه الكيانات لم تنشأ من التاريخ، بل فُرضت عليه، ولذلك انهارت سريعا أمام تصاعد الكفاح الوطني. لكن ما يُسقط جوهر هذه التسمية ليس فقط سياقها الاستعماري، بل تناقضها الفاضح مع التاريخ اليمني ذاته. فاليمن، كما يعرّفه الهمداني في “صفة جزيرة العرب”، ليس شمالا وجنوبا، بل وحدة جغرافية–حضارية متصلة، لا تعرف هذا الفصل القسري. تمتد من حضرموت والمهرة وسقطرى شرقا، إلى تهامة غربا، ومن عدن جنوبا إلى نجران وجيزان وعسير شمالا.
ويعزز نشوان الحميري هذا الفهم في “شمس العلوم”، حيث يتعامل مع اليمن كوحدة لغوية وثقافية وتاريخية لا تعرف هذه التقسيمات السياسية الطارئة. فاليمني في المدونة التراثية ليس ابن جهة، بل ابن أرض واحدة، تتعدد أقاليمها ولا تنفصل هويتها. كما يوثق محمد علي الأكوع الحوالي في كتابه “اليمن الخضراء: مهد الحضارة” الامتداد اليمني الطبيعي، بما فيه المخلاف السليماني، كجزء لا يتجزأ من المجال اليمني. ويقول إن اليمن “لم تكن في أي طور من أطوارها التاريخية كيانا مجتزأً بالمسميات الطارئة، بل وحدة جغرافية–بشرية تشكلت عبر التاريخ”.
وفي هذا السياق، تبرز حضرموت والمهرة بوصفهما المثال الأكثر دلالة على زيف التسمية، حين رفضتها الانضمام للمشروع الاستعماري. فإدراج حضرموت والمهرة ضمن هذا القالب لم يكن امتدادا لتاريخهما، بل قطيعة معه.
لهذا، لم يكن رفض مصطلح “الجنوب العربي” موقفا أيديولوجيا عابرا، بل وعيا تاريخيا عميقا. فقد استخدمت الحركة الوطنية، منذ انطلاق ثورة 14 أكتوبر 1963، مصطلح “جنوب اليمن المحتل” في جميع بيانات الجبهة القومية، في ربط واضح لمعركة التحرر بسياقها الوطني الأشمل. ووصفت هذه الأدبيات المشروع صراحة بأنه”اختراع استعماري يهدف إلى تجزئة اليمن وضرب وحدته الوطنية”.
وجاء إعلان الاستقلال في 30 نوفمبر 1967 ليحسم الأمر نهائيا، باختيار اسم “جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية”، في إسقاط متعمّد للتسمية الاستعمارية. وقد عبّر الرئيس قحطان محمد الشعبي عن هذا الموقف بوضوح حين قال: “لسنا اتحاد قبائل ولا بقايا محميات، نحن شعب واحد انتزع استقلاله من الاستعمار”.
ويضيف الرئيس قحطان في خطابه بمناسبة إعلان الاستقلال: “لقد حاول الاستعمار أن يستبدل وجوده العسكري بصيغة سياسية تحمل اسما عربيا، لكن جوهرها ظل استعماريا”. بهذا المعنى، كان الاستقلال قطيعة مع الاسم كما مع البنية التي أنتجته.
من هذا المنطلق، يمكن فهم “الجنوب العربي” باعتباره تسمية وظيفية، أُنتجت لعزل الجنوب عن عمقه اليمني، وربطه بسياق جغرافي وسياسي مختلف، بما يسهل فصله لاحقا، وإدارته ككيان منفصل هش. وفي هذا السياق يقدم المؤرخ سيف علي مقبل في كتابه “وحدة اليمن تاريخيا”، مسلّمة أساسية مفادها أن الجنوب، كما الشمال، لم يوجد في أي مرحلة تاريخية بوصفه كيانا منفصل الهوية أو الاسم. فاليمن، في قراءته، ظل وحدة تاريخية حتى في لحظات التعدد السياسي، وهو ما يجعل أي محاولة لإنتاج هوية جنوبية منفصلة تحت مسمى “الجنوب العربي” قطيعة مصطنعة مع التاريخ، لا امتدادا له. ويشير بوضوح إلى أن “التقسيمات التي لا تستند إلى حقائق تاريخية راسخة، سرعان ما تتحول إلى أدوات صراع لا إلى أطر استقرار”.
اليوم، يعود المصطلح نفسه إلى الواجهة، لا بوصفه ذكرى تاريخية، بل كمشروع سياسي معاصر. إعادة إحيائه لا تعكس حنينا إلى هوية، بل استعادة لنهج قديم يقوم على تفكيك الجغرافيا، وتمزيق الوعي، وإنتاج سلطة محلية تبحث عن الحكم تحت أي عباءة، حتى وإن كانت عباءة استعمارية مهترئة. وهو ما يصفه الباحث والمؤرخ العراقي سيف الدين الدوري بدقة في كتابه “الحراك السياسي في جنوب اليمن 1963–1994″، حين يؤكد أن “التسميات السياسية التي صاغها الاستعمار في جنوب اليمن لم تكن محايدة، بل أدوات لإدارة الصراع بعد الانسحاب”.
الأخطر، أن هذا المشروع لا يُقدَّم بوصفه تقسيما صريحا، بل يغلّف بشعارات الهوية والخصوصية. غير أن الخصوصية، حين تُستخدم لنفي الانتماء الأوسع، تتحول من حق ثقافي إلى أداة سياسية. وهو ما حذّر منه البردوني حين قال إن أخطر ما يفعله الاستعمار هو “أن يجعل الضحية تتبنى لغته وتدافع عن مصطلحاته”.
إن تسمية “الجنوب العربي” لا تجرح الذاكرة الوطنية فحسب، بل تمارس فعل سلخ رمزي للأرض، قبل أن يُستكمل سلخها سياسيا. فالتسمية، كما التاريخ، ليست محايدة. وما يُفرض على الوعي اليوم، يُراد له أن يتحول غدا إلى واقع وحدود ومصائر.
الصراع الحقيقي في هذا السياق، ليس بين شمال وجنوب، بل بين هوية يمنية متجذرة في التاريخ والجغرافيا، وبين هويات جهوية مصطنعة تُستخدم لتسهيل الهيمنة. وقد أسقط اليمنيون هذا المشروع مرة لأنه كان ضد التاريخ، وكل ما يُبنى ضد التاريخ، مصيره السقوط، مهما تغيّرت الأسماء والرعاة.
نقلاً عن: “يمن ديلي نيوز”